تايلاند تحت المجهر.. القمع القضائي يُحاصر نشطاء المجتمع المدني
تايلاند تحت المجهر.. القمع القضائي يُحاصر نشطاء المجتمع المدني
تعيش تايلاند اليوم لحظة مفصلية في علاقتها مع المجتمع المدني، وسط تصاعد مقلق للمضايقات والانتهاكات التي تطول المدافعين عن حقوق الإنسان والمعارضين السياسيين، في ظل رفض السلطات مشاريع القوانين المقترحة للعفو عن المجتمع المدني، واستمرار تجريم الحراك السلمي المناهض للنظام.
وفي الوقت الذي يُصنف فيه مرصد "سيفيكوس" الفضاء المدني في تايلاند بأنه "مقموع"، تتكثف الإجراءات القضائية ضد الناشطين والصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان، لتشكل هذه المرحلة أحد أكثر فصول القمع توسعًا منذ احتجاجات 2020 التي أطلقتها أصوات شابة مطالبة بإصلاحات ديمقراطية جوهرية.
قوانين القمع باسم الملك: المادة 112 في الواجهة
أبرز أدوات القمع في يد الدولة التايلاندية هي المادة 112 من القانون الجنائي، المعروفة بقانون "العيب في الذات الملكية"، والتي تنص على معاقبة كل من يُدان بالإساءة إلى الملك أو العائلة المالكة بأحكام قد تصل إلى عشرات السنوات من السجن.
ووفقًا لمنظمة "المحامون التايلانديون من أجل حقوق الإنسان"، وُجّهت تهم بهذه المادة إلى أكثر من 281 شخصًا منذ يوليو 2020، من بينهم طلاب وفنانون ومحامون وأكاديميون.
ومن أبرز هذه القضايا، سُجنت المدافعة عن حقوق الإنسان بيمسيري بيتشنامروب على خلفية خطاب ألقته في مظاهرة سلمية، وتواجه تهمًا متعددة تتعلق بالإساءة إلى النظام الملكي، والتحريض، وتنظيم تجمعات غير قانونية، إلى جانب خرق مرسوم الطوارئ.
ورغم الإفراج عنها بكفالة، منعت السلطات سفرها إلى الخارج للمشاركة في جلسات أممية، في انتهاك صارخ لحقها في حرية التنقل والمشاركة المدنية.
من الساحات إلى الزنازين
أرنون نامبا، أحد أبرز وجوه الحراك الديمقراطي في البلاد، يقضي حكمًا بالسجن لمدة 29 عامًا، نتيجة سلسلة من الإدانات بتهم الإساءة إلى الملك، والتحريض، واستخدام مكبرات الصوت، على خلفية خطابات ألقاها في احتجاجات عامة، أرنون كان من أوائل المحامين الذين دافعوا عن نشطاء تم استهدافهم بسبب تعبيرهم السلمي، وهو أحد مؤسسي منظمة "المحامون من أجل حقوق الإنسان".
وحسب تقارير حقوقية، تكررت ممارسات رفض الكفالة أو فرض شروط صارمة للإفراج، ما يُعد انتهاكًا لضمانات المحاكمة العادلة وحقوق المحتجزين.
حرية التعبير في مهب الريح
استهداف النشطاء لم يقتصر على الأفراد البارزين، بل طال متظاهرين شبابًا ومواطنين عاديين نشروا محتويات تنتقد النظام على وسائل التواصل الاجتماعي فقد حكم على شاب يبلغ من العمر 27 عامًا بالسجن عامين بسبب منشور على فيسبوك وصف فيه الحكومة بـ"الفاسدة"، واعتُبر إساءة للمؤسسة الملكية رغم عدم ذكرها صراحة.
وفي حالات أخرى، أدين ناشطون في تايلاند فقط بسبب رفعهم لافتات أو إشارات رمزية خلال الاحتجاجات، بمن في ذلك فنان غرافيتي وُجهت إليه تهمة بموجب قانون جرائم الإنترنت بسبب صورة له يشير فيها إلى صورة العائلة المالكة.
رفض مشروع قانون العفو عن المجتمع المدني
رفض مشروع قانون العفو عن المجتمع المدني من قبل البرلمان التايلاندي وحكومة بايتونغتارن شيناواترا، التي أُوقفت لاحقًا عن عملها، يُفسّر على أنه مؤشر على إرادة سياسية لقمع الحراك المدني بدلًا من احتوائه.
هذا الرفض تزامن مع تصاعد النزاع المسلح على الحدود الكمبودية التايلاندية، ما زاد من هشاشة الوضع الأمني والمعيشي، وأعطى ذريعة للسلطات لتكثيف قبضتها الحديدية باسم حماية الأمن القومي.
لا لديمقراطية مقيّدة
في 11 يوليو 2025، أصدر خبراء حقوق الإنسان في الأمم المتحدة بيانًا مشتركًا أعربوا فيه عن قلقهم العميق من استخدام قوانين العيب في الذات الملكية كأداة لإسكات المعارضة.
وأكد البيان أن "هذه القوانين بصيغتها الغامضة وعقوباتها المفرطة تتعارض تمامًا مع المبادئ الأساسية للديمقراطية، وتهدد حريات التعبير والتجمع وتكوين الجمعيات".
كما أعربت لجنة الأمم المتحدة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة (سيداو) عن "قلقها العميق" إزاء الوضع الخطير الذي تواجهه المدافعات عن حقوق الإنسان، مطالبة السلطات التايلاندية بتهيئة بيئة آمنة تضمن لهن حرية العمل والنشاط دون خوف أو اضطهاد.
إرث القمع وأمل التغيير
شهدت تايلاند خلال العقود الماضية موجات متتالية من الاحتجاجات والاضطرابات السياسية، تخللتها انقلابات عسكرية وصراعات بين النخب، وبينما تكرست مكانة النظام الملكي كسلطة فوق دستورية، لم تُواكب مؤسسات الدولة المتطلبات الديمقراطية الحديثة، وظل القمع أداة فعالة لإدارة الخلافات.
وعلى الرغم من الآمال التي وُلدت مع احتجاجات 2020 التي قادها طلاب وشباب يطالبون بإصلاحات عميقة، جاءت ردود الفعل الرسمية قاسية، ليبقى سقف الحريات في البلاد منخفضًا، وحرية التعبير تحت التهديد.
الطريق إلى العدالة يبدأ من الاعتراف
أزمة تايلاند في ملف حقوق الإنسان ليست فقط في عدد المعتقلين أو طبيعة القوانين القمعية، بل في غياب الإرادة السياسية لإصلاح بيئة سياسية تحترم التعددية وحرية الرأي، وإذا لم يُفتح حوار حقيقي مع المجتمع المدني، وتُحترم المواثيق الدولية التي التزمت بها بانكوك، فإن البلاد ماضية في مسار خطير يُقوّض أسس الديمقراطية ويعزلها أكثر عن المجتمع الدولي.